0:00
15:34
بين حميمية البيت المطلقة، وغربة الخارج الكاملة، يمتد المقهى كمكان. فتمثل مساحته الصغيرة فضاء رحب يتسع للجميع، ونافذة مفتوحة على الزمن. فالمقهى الشعبي الذي تجلس إليه في نهاية يوم طويل من العمل، أو ذاك الغربي الذي تزوره في عطلة نهاية الأسبوع مع الأصدقاء، قد قطع رحلة طويلة تمتد لخمسة قرون حتى وصل إليك. وفي تلك الرحلة، سافر عبر جغرافيات عدة في بلاد كثيرة، تأثر بثقافتها وامتزج بها، وترك أيضًا بصمته عليها.
ليس من قبيل المصادفة أن القهوة كمشروب، و"القهوة" كمكان يتشاركان الاسم نفسه في معظم اللغات. فعلى عكس المشروبات الأخرى الشائعة في ذلك الوقت، كان من العسير تحضير القهوة في البيت. فحتى تتحول ثمرة القهوة لمشروب، عليها أن تمر بمراحل عدّة من تجفيف وتحميص وطحن، تحتاج لمعدّات خاصة لا تتوفر عند كل شخص. لم يكن من الصعب على الأثرياء وعلية القوم أن يخصصوا في بيوتهم غرفة لإعداد واحتساء المشروب، أما بالنسبة لعامة الشعب، فذلك لم يكن ببساطة متاحًا. من ثم، نشأ المقهى ليحل تلك المشكلة، فهناك، يستطيع أي شخص، غني أو فقير، أن يحتسي القهوة. لكن ما بدأ كمكان مخصص لتناول مشروب رائج، سرعان ما تجاوز هذا الغرض البسيط بكثير.
فلقاء ثمن قليل، تستطيع الجلوس ومشاركة الأصدقاء الحديث والسمر لساعات طوال. وعلى عكس المساجد، لا يوجد محاذير هنا في الكلام، يمكنك الحديث عن أي شيء شئت، من تفاصيل ومواقف يومية صغيرة، لأفكار وتساؤلات عميقة. انساب الحديث بحرية وسلاسة بين الأصدقاء، ولم يمر وقت طويل قبل أن ينعطف ليشمل السياسة وانتقاد الحكام. [2]
انتشرت المقاهي في البلاد الإسلامية انتشار فاق التوقعات، فبحلول عام 1623، كان في إسطنبول وحدها 600 مقهى. أقض هذا الانتشار مضاجع السُلطات. فمثلت كل تلك المقاهي بالنسبة إليهم بؤر، على أقل تقدير، لانتقاد الحُكام والتعبير عن الاستياء الشعبي الذي قد يتحول، على اسوء تقدير، لانقلابات وثورات. من هنا، اتخذ السلاطين والحُكّام من الدين غطاء شرعي يحرمون من خلاله احتساء القهوة، التي عدها بعد الفقهاء حرام كالخمر، ويوجبون اغلاق المقاهي، التي بدأت، بُعيد انتشارها بقليل، تاريخها مع المنع؛ فقد أتي أول قرار رسمي بإغلاق المقاهي عام 1511، على يد حاكم مكة، بعد أن وصلت لأسماعه الأشعار التي انطلقت تهجوه منها. لكن القرار سرعان ما أبطله والي القاهرة، الذي كان مغرمًا بشكل شخصي بالقهوة. وبعد أن عرف العرب القهوة بحوالي قرنين، سافرت حبوب البن لأوروبا، ليبدأ فصل جديد في تاريخ المقاهي بجزء آخر من العالم. [4]
من العالم الإسلامي، سافر المقهى لأوروبا، وارتبط منذ بداياته بعوالم الثقافة والفكر. فكان في أوكسفورد أن فتح أول مقهى في بريطانيا أبوابه، وصارت المقاهي بمثابة "جامعات رخيصة". فلقاء قرش واحد، تستطيع الجلوس والتمتع بفنجان قهوة يصحبه نقاشات ثرية حول كل شيء في العالم.
صحيح أن المقاهي لم تكن أول حيز يشغل الفضاء العام في أوروبا، فقد سبقته الحانات بقرون، لكن عوضًا عن الأحاديث السطحية والهلوسات التي تغلب على من أن أسكرتهم الخمر في الحانات، جاء المقهى ليمثل مكان تطفو فيه النقاشات الثرية بين عقول تزيدها حبوب القهوة يقظة. ومن ثم، عدّ بعض المفكرين القهوة في تلك الفترة بمثابة مضاد للخمر، جاءت لتوقظ الأوروبيين من سكرتهم الطويلة. [5]
يقول عن هذا الكاتب ستيفن جونسن: "كان تأثير انتشار القهوة في أوروبا في القرن السابع عشر قويًا للغاية، فحتى ذلك الوقت، كانت أكثر المشروبات انتشارًا، حتى على الفطور، هي الخمر والجعة. وأولئك الذين استبدلوا القهوة بالخمر بدأوا يومهم في يقظة ونشاط، وتخلصوا من حالة الارتخاء والسُكر، ومن ثم تحسن أدائهم في العمل كمًا وكيفًا. بدأت أوروبا الغربية حينئذ تستيقظ من حالة الثمالة التي سيطرت عليها لقرون". [6]
ولكن الأخطر من كل ذلك كان الدور السياسي الذي لعبته المقاهي. فقد كانت المقاهي إحدى أولى الأماكن التي بدأت الصحف توزع فيها بشكل دوري. وقد اعتاد رواد المقهى قراءة آخر الأخبار ومناقشتها مع بعضهم البعض، معبرين في أحيان ليست قليلة، عن سخطهم على السُلطات.
لم يمر وقتًا طويل قبل أن تعبر القهوة المحيط الأطلنطي وتصل لأمريكا، وهنا، شهدت تغييرها الأعظم. ففي بلد الرأسمالية والحلول الاقتصادية، دأبت الشركات الضخمة على إيجاد طريقة تصير بها القهوة سهلة التحضير، لا تحتاج معدات خاصة، ومن ثم يصير توزيعها وبيعها أسهل للأفراد.
الشعر
قال جرير:
إن العيون التي في طرفها حور ** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ** وهن أضعف خلق الله إنسانا
D'autres épisodes de "Easy arabic العربية السهلة"
Ne ratez aucun épisode de “Easy arabic العربية السهلة” et abonnez-vous gratuitement à ce podcast dans l'application GetPodcast.